يوفر مركز إرادة في الجامعة الإسلامية برنامجًا تدريبيًا للشباب اليافعين الذي تُوفده مؤسسة التعاون إليها، ويختص البرنامج بتأهيل ودمج الأشخاص من ذوي الإعاقة أو الإصابات المسببة للإعاقة للانخراط في المجتمع. لقد كان قدر عبد الرحيم أن يرى بحدقة عينيه ما سمعه من صديق له عن خدمات المركز التي يمنحها لهؤلاء الشباب؛ أملًا واجتهادًا في إيجاد حياةٍ سويَة لهم.
عبد الرحيم رياض زقوت شابٌ على عتبة الثلاثين، شبّ عوده في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تزوج على نفقة والده الخاصة، ويعيل بلا عمل ثلاثًا من البنات، ينتظر الخلاص التام من قبضة الإصابة التي رَزأَتْ بركبته اليمنى إثر عيار ناري على حدود قطاع غزة. تلقى زقوت العلاج في بادىء إصابته في مستشفى الأقصى بدير البلح ثم استكمل العلاج تحت رعاية أطباء بلا حدود، حيث غنِم هناك بالشفاء التام إلّا من تخدّرٍ سيء في أعصاب قدمه اليمنى والتي أمست تحُولُ دون تحكّمه المطلق بها.
أطبق الحزن جرّاء الإصابة على وعاء قلبه، وراحت تتقاذفه رياح اليأس بين الفينة والأخرى، كلّ يوم ينقضي، يترك في نفسه تساؤلاتٍ كثيرة جُلّها تتمحور حول إيجاد سبيل للاعتياش، خاصةً بعد أن جُعل طريح الفراش لفترة غير قصيرة، أحسّ خلال هذه الفترة بالعجز عن أداء دوره كأبٍ مسئول عن حياة فتياته الثلاث؛ ففكّر بحل مجدٍ ينتشله من قاع هذا البؤس؛ لا سيما وأنّ الأوضاع الإقتصادية في قاع غزة تستوجب التحري الدائم عن عمل. لقد أسدى عبد الرحيم لنفسه معروفًا حينما إعتزم على الالتحاق بمركز إرادة بعدما أخبره صديق له يعمل في أطباء بلا حدود عن خدمات المركز ورؤيته التي يسعى لتحقيقها. أقدَم زقوت على المركز بروح عاجزة، وتمت مقابلته وإرشاده والتعامل معه بكل إنسانية وحفاوة، فخرج منه بروح تناطح السحاب.
اختيار خاطىء
للوهلة الأولى، قرّر عبد الرحيم أن يندفع بغير رغبةٍ نحو ورشة صيانة الأجهزة الذكية اعتقادًا منه أنها الأنسب للوقت الراهن، وكان ذو حماسة مفرطة لأجل تعلم هذه المهنة الجديدة، في الحقيقة لم تكن تتواءم ورغباته ولكنها-كما يعتقد- قد تكون مورد رزقه المؤكّد؛ سيما في ظل هذا الميول الكبير للناس نحو اقتناء الأجهزة الذكية. مكث عبد الرحيم في صيانة الأجهزة الذكية يومين لا أكثر ولا أقل؛ ولم تزِدْ على أن جعلَت انتكاسَه مركّبًا، فالإصابة من جهة قد أوْدت بقواه خائرةً عاجزة عن التحامل وعدم التوفيق في هذه الورشة قد زادت الين بِلة، غير أنه لا يزال يتحرى مواضع الأمل بين الفينة والأخرى، لم يكن الحظ يقف إلى جانبه في هذه الورشة-كما أفاد المدرّب- وهذين اليومين اللذين قضاهما لم يكونا سوى صباحيْن شتائيّين يجثم عليهما الضباب لصعوبة مكنونهما، يقول عبد الرحيم: ” لحسن الحظ، أدركت نفسي قبل فوات الأوان. لم تكن هذه الورشة هي الحاضنة الملائمة لمهاراتي وقدراتي”.
اقتناص الفرصة بدافع الرغبة
يواصل زقوت حديثه وقد اكتسَت وجهه ملامح السعادة: ” الحمد لله، كانت لدي أرضية شبه خصبة عن مهنة النجارة، وبعد أن حالت تلك الورشة بيني وبين تعلم مهنة جديدة، عُدتُ إلى رغبتي الأولى وهي ورشة النجارة، فأبدعت”.
كانت ورشة النجارة في مركز إرادة هي محفل الانجاز لزقوت، لقد كانت المكان الذي يتنامى فيه شعوره بالراحة رغم الضنك، ويكأنه كان يحب أن يظفر بميقاتٍ يستأنس فيه مع نجارة الخشب المُضِرّة؛ وما لبث إلا أن تآلفت العلاقة بينهما خلال أربعة أشهر، فصار يألفها كما يألف بناته الثلاث، كما وتعاضدت روحه مع آلة القص التي كان يمضي معظم وقته يتمرّس عليها، فأصبحت جزءًا لا ينفك عن يومه؛ بل غدت حصنه الحصين الذي يكلؤه من عدم التعرض لنفحات اليأس التي تفسد حياته خاصة بعد الإصابة. في الورشة آنفة الذكر، تعلم عبد الرحيم مقاييس الألواح وأنواعها، وكيفية تقسيمها والاستثمار في زوائد الأخشاب، وكذلك تدرّج في التعلم على أدوات أخرى كآلة التنعيم أو الصنفرة. يردف المدرب: ” كنت أُنيط الأعمال إلى عبد الرحيم إيمانًا بقدرته على انجازها بسرعة ودقه متناهية، وحذاقته في التجاوب مع نصائحي والبناء عليها أهلّه لأن يتخرج من هذه الورشة الأول على أقرانه”
يُعقّب عبد الرحيم: “لم يكن يساورني الشك قيد أنملة أنني سأحظى بمرتبة متميزة في هذه الورشة وذلك لأنني كنت أقصدها بقلبي لا بجسدي”
هذه النجارة وتلكم الآلات وهؤلاء الأصحاب الذين تبادلوا معه المزاح والأحاديث والدروس التطبيقية هي التي عرّجت به من حياة البؤس إلى حياة الترف؛ الترف النفسي الذي يتجلى على القلب وتظهر معالمه على قسمات وجه عبد الرحيم كلّما يتم سؤاله عن فترة التدريب وعن منتجاته في إرادة.
نجارة الخشب صديقة العائلة
يحكي عبد الرحيم قصة نجاحه باعتزاز بالغ ويشير إلى تلك الطاولة الخشبية الصغيرة التي تتصدّر غرفة بناته الثلاث، هذه الطاولة كانت أول منتج يصنعه بيديه وبتلك الأدوات الصديقة في إرادة. تعاملت فتياته الثلاث مع تلك الطاولة بحب شديد؛ حيث غدت لوح الدراسة الدائم، صينية الطعام المفضلة، وحاوية الدمى بنوعيها القماشية والبلاستيكية. إن عبد الرحيم يعير بناته الثلاث اهتمامًا مضاعفًا، فهُنّ وزوجته كانا السند المتواصل له موقت الإصابة ومن ثَمّ طيلة فترة التدريب، وهذه الطاولة قد صُنعت لهنّ ايفاءً بحقهن عليه. لم تكن هذه الطاولة هي المنتج الأخير بل عمل زقوت على تصميم الخُزن والمكاتب وأطقم الخشب في معرض مركز إرادة”.
ماذا بعد التخرج؟
يتوق عبد الرحيم إلى أن ينتدب نفسه على ورشة خاصة، تكون مصدر إعالة له ولأسرته، حيث يرى نفسه قادرًا على إدارة أي مشروع من تلقاء نفسه، فلا شيئ يحد العزيمة إنْ توّجت زمام الأمور. وهنا تستوقفه لحظات من احتفال التخرج من برنامج التدريب لدى إرادة، يبسط ابتسامته على وجهه في امتنان كبير ويضيف: ” إرادة غيّرتني للأحسن. لم أكن قد جرّبت شعور الامتياز والتخرج وفرحة الأهل من قبل، شكرًا إرادة شكرًا مؤسسة التعاون”.