إرادة للالتحاق بإرادة
قضت نائلة من عمرها ثمانٍ وعشرين عامًا غير آبهةٍ بمعنى تكوين حياة فريدة يحفها النجاح والمثابرة؛ وذلك لأنها كانت مقيدةً بقيود الإعاقة السمعية التي حالت بينها وبين كثير من الفرص. التحقَت بدبلوم تكنولوجيا الإبداع للطلبة الصم في الجامعة الإسلامية بدعم حثيث من والدتها وقد أبلت بلاءً حسنًا فيه، تقدّمت للعمل والتطوع في عدد لا بأس به من المؤسسات بعد التخرج من الدبلوم، ولكن سرعان ما كانت تتلقى ردودًا فحواها سلبي يرجع لأسباب الإعاقة. علمَت بمركز إرادة وخدماته من خلال إعلان وزارة العمل على الفيسبوك، وقررت حينها الالتحاق بمركز إرادة لتأهيل ذوي الإعاقة، فكانت ورشة الخياطة ضمن مشروع التدريب المهني للأفراد من ذوي الإصابات المسببة للإعاقة -قطاع غزة بتمويل من مؤسسة التعاون هي المستقر الأخير لها.
مفارقات صامتة داخل ورشة الخياطة
إنّ الولوج إلى عالم ليس بعالمك أو التعوّد على لونٍ ليس من لونك يصنع حاجزًا بينك وبين الإبصار بموضع القدم حيث تتهادى. وهذا ما عاشته نائلة فعليًا في بداية التحاقها بورشة الخياطة؛ حيث لاقت وقتئذٍ صنوفًا متنوعة من الاختلافات بين عالمها وعالم الناطقين: الطبائع، آلية التواصل مع الآخرين، وقت الفراغ، سرعة الإنجاز، طريقة التعبير وغيرها، مما جعلها تتزعزع في اتخاذ قرار البقاء في المركز. ارتأت أن تكون جليسة المنزل كما اعتادت من قبل على عن أن تطيق التعامل مع مجتمع لا تفهمه ولا يفهمها؛ لا سيما أنها قد قوبلت بالرفض قبل ذلك عدة مرات من العديد من المؤسسات وذلك بسبب ضعف تواصلها واتصالها مع الآخرين، ولكن ما لبث شبح التردد يتلبّسها كثيرًا إذ كانت يد الأم الحانية دائمًا بالباب كلما قصدته لتتخلص من متاعب الحياة. وبالمثل، حصدت نائلة تحريضًا كبيرًا على بذل دفعة من المحاولة نحو كسر حاجز اللغة من المدربة والزميلات اللواتي أبديْن تعاطفهن معها وحاولن تقديم يد العون على الدوام.
أم مثالية
أيفعَت نائلة في أكناف خمسة عشر فردًا يقطنون في شمال قطاع غزة، في بيت متواضع لا يُعيله فرد بعينه، فكل من يجد في جيبه مدّخرًا من المال يُنفقه على عائلته دونما إغلال. كانت أم نائلة تدفع بعزيمة ابنتها عاليًا، تجتهد في تهدئة نفسها تارة وتستفز بداخلها شيئًا يدعى النضج تارة أخرى: النضج في مكابدة عناء تفهّم الآخرين، النضج في صنع قرارات صائبة، الحزم في استكمال طريق دونما كلل، السعي نحو إيجاد عمل لتعتاش منه. هذه الأم المثالية بحكمتها وخبرتها في دهاليز الحياة قد علمت أن ابنتها ليست بحاجة إلا لأنْ تؤمن بذاتها قبل أن يؤمن بها الآخرين.
وبعد ذلك الإدراك، انعكفت أم نائلة على متابعة ابنتها داخل مركز إرادة بعد اتخاذ قرار الاستمرار، وصارت تغزل لها شبكة من الصديقات وتتزلّف لها بالدعم والود والتلطف لتستطيع مواصلة المسير، لاقت نائلة تشجيعًا كبيرًا أيضًا من مدرّبتها وتم توفير مترجمة لغة إشارة مؤقتة من قبل المركز فبدأت تتنفس الصعداء شيئًا فشيئًا.
“وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم”
إلى جانب الاختلافات آنفة الذكر، لم تكن ورشة الخياطة هي المقصد الأول لنائلة، وهذا بحد ذاته قد أردى بها في قاع القنوط والتذمر. فهي لم تكن ذات شغف كبير بالخياطة أو على حد التعبير لم تكن على اطلاع بتقنيات مهنة الخياطة، ولم تحلم أبدًا أن تصبح خياطة من قبل، فازداد الوضع سوءًا في أول أيام التدريب، وانبثقت مشكلة جديدة من تلك التي تجاوزتها. أمضت نائلة أيامها الأولى في التدريب تحاول أن تستقي شيئًا من زميلاتها وتتعظ بنصائح أمها وتجرّب الانصياع لتعليمات المدرّبة علّها تجد مخرجًا لأزماتها. كانت تتذبذب بين المواظبة على التعلم وبين الملل، ثم ومع مرور الأسبوع الأول، وتعلم فنون القص والرسم على البترونات والعمل على آلة الخياطة بعد ذلك، أصبحت كل الحواجز تتلاشى تدريجيًا، وبدأت تشعر بشيء من التقبل تجاه مهنة الخياطة؛ بل وبعد فترة وجيزة، شعرت أن هذه المهنة قد أمست تخفف من وطأة الإعاقة وتكسر حواجز كثيرة لم تكن لتُكسر دونها.
لن تنقُض غزلها
كانت نائلة تأوي إلى ماكينة الخياطة كلما واتتها الفرصة بذلك؛ حيث الخيوط تتشابك بأصابعها ومن ثًمّ بسمّ الخِياط، فتنتج من الخيط والإبرة عباءات نسائية وملابس طبية ومدرسية وأرواب تخرج جميلة. أبدت نائلة ارتياحًا عارمًا حيال ما تُخيطه في ورشة التدريب بمركز إرادة وبعدما كانت قضبان هذه الورشة تُذيب شغفها بالمضي قدُمًا في مستهلّ الأمر، أصبحت عزيمتها تتقد تدريجيًا مع كل إنجاز تقوم به وكأنها مع كل درزة تلضمها تُحيك عوالم من الطموح الذي لا يحدوه سدٌ ولا يجلوه وَهن الإعاقة، كما وصارت تتلذذ بمكابدة فهم الناطقين من حولها حتى رست سفينة الصراع بينهما على ميناء يختلط فيه الصمت بالكلام. فأصبح حديث الناس من حولها حديث الناصح المحب وصمتها لهم ينم عن إنجاز محتّم. رغم قصورها عن التعبير بالكلمات، إلا أنّ قطع القماش التي تقصها والقطع الأخرى التي تخيطها تحكي عن حذاقة خيّاطة ضليعة في القص والتصميم-كما تفيد المدرّبة.
تقول مترجمة الإشارة على لسان نائلة: ” آمنت بأني أستطيع تحويل إعاقتي من محنة إلى منحة، ربما يسمع الكثيرين من حولي، لكن أوقن حق اليقين أن القلب هو وعاء السمع لا الأذنين وهو المنوط بممارسة المهنة بشغف كبير”. وتردف: يعود الفضل في كل هذا بعد أمي لجهود مدربتي وزميلاتي اللواتي لم يبخلْن بالمعونة عند الحاجة، ولما ألِفته في مركز إرادة من حسن المعاملة والمساندة التي أغدقوها عليّ منذ أن التحقت بالورشة.
خيوط الأمل تُحيك مستقبلًا
استطاعت نائلة أن تصنع من نفسها أيقونة إبداعٍ ونموذجًا يُحتذى به لكل المصابين بالإعاقة السمعية خاصةً في مركز إرادة، فمن يملك العزيمة والمهارة لا يُقعده عن الوصول إعاقةٌ ولا ظرفٌ اجتماعي؛ وإنما يكون طوْع محرّك داخليّ قوي يتطلّع دائمًا نحو الأفضل؛ نحو بناء الإنسان والاستثمار في قدراته. تختم المترجمة حديث نائلة ولسان حالها يقول: ” إنني أروم تعلم فنون تفصيل الملابس الرسمية وفساتين الأفراح، وأحلم ببناء حياة مثابِرة تقوم على الجد والعمل، طموحي أنْ أُوجد لنفسي مشروعًا خاص، وربما-ذات يوم-يكون تحت إدارتي مصنعًا كبيًرا للخياطة يختص بذوات الإعاقات السمعية”.